بعد رحيل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرته، خرجت تساؤلات ترتبط بالتغيرات التي من الممكن أن تطرأ على السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة، وتحديداً مع وصول وزير جديد للخارجية الإيرانية على خلفية مقتل الوزير حسين أمير عبد اللهيان. أظهرت إيران بعد وصول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي نهجاً إستراتيجياً جديداً في الشرق الأوسط، على مستوى العلاقات والتفاعلات والقضايا، وهي حالة فرضتها الديناميات المتغيرة في المنطقة بعد اغتيال قائد قوة القدس الإيرانية قاسم سليماني، والتعثر المستمر في سياق العلاقات الأمريكية الإيرانية، فضلاً عن تأثير المتغيرَين العربي والإسرائيلي، كل ذلك أفرز بدوره إعادة تموضع استراتيجي إيراني للتعامل مع المتغيرات المؤثرة في المنطقة، وتحديداً الحرب الجارية في غزة، إلى الحد الذي وضع إيران أمام سيناريوهات مستقبلية معقدة بعد رئيسي، بعد حادثة سقوط طائرته، رفقة أعضاء في الحكومة الإيرانية مطلع الأسبوع الماضي. إن التساؤل المهم الذي يدور اليوم، يرتبط بالتغيرات التي من الممكن أن تطرأ على السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة بعد رئيسي، وتحديداً مع وصول وزير جديد للخارجية الإيرانية على خلفية مقتل الوزير السابق حسين أمير عبداللهيان، ويتمثل في: ما هو شكل هذا التغيير؟ وما أبرز الملفات التي ستكون حاضرة على أجندة القيادة الإيرانية الجديدة؟ والأهم، كيف ستتفاعل الولايات المتحدة مع هذا المتغير الجديد؟ وعما إذا كانت هناك تداعيات يفرضها غياب رئيسي على المشهد الاستراتيجي العام في المنطقة. نظرة إلى الماضي القريب تبدو الأطر العامة للدور الإيراني في الشرق الأوسط، التي رسم الحرس الثوري خطوطها ومجالاتها الرئيسية، منذ وصول رئيسي إلى السلطة في أبهى صور تقدُّمها ونجاحها الميداني، لما أبدته إيران من مرونة عالية، وامتلاكها كمّاً كبيراً من البدائل الجيوسياسية القادرة على التكيف مع أي حدث طارئ داخل مناطق نفوذها، إذ إن قابلية التمدد الإيراني بدأت واضحة بفعل ما يمتلكه المدرك الاستراتيجي للمفكر الإيراني، من قراءة لواقع المنطقة وتوجهاتها، فالربط الاستراتيجي الإيراني بين رغباتها وأهدافها الوطنية، وطموحات الشعوب في الدول والجغرافيات القريبة منها مذهبياً، كان مفتاحاً أساسياً من مفاتيح التحرك الاستراتيجي الإيراني المرن منذ احتلال العراق وحتى الآن. استند هذا التحرك إلى جملة عريضة من المقومات والتوليفات الفكرية الجيو عقائدية، فضلاً عن السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، المغلفة بصورة براغماتية، والمعنونة بأداء متعدد الأبعاد كقوة ناعمة وصلبة، ضاربة ومتحدية بذلك كل القوى الإقليمية والدولية الطامحة لتعميق نفوذها في الشرق الأوسط. إذ أدى وصول رئيسي إلى السلطة في عام 2021، إلى خلق وحدة في الخطاب السياسي الإيراني الموجه إلى الخارج، وتحديداً حيال العواصم الأربع "بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء"، وهي أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء اختيار رئيسي من قِبل التيار المحافظ والحرس الثوري، بدعم وتأييد من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في محاولة لإنهاء الخلافات التي ظهرت خلال فترة الرئيس الأسبق حسن روحاني، وتحديداً بين مؤسسة الرئاسة والحرس الثوري حول الدور الإقليمي الإيراني، بالشكل الذي جعل المنطقة أمام سياسة وخطاب إيراني واحد، وليس أمام سياسات وخطابات مُتباينة ومُتداخلة. كما قامت استراتيجية الحرس الثوري في المنطقة، وتحديداً في مرحلة ما بعد اغتيال سليماني، على إحداث عملية استمرارية وتغيير في طريقة عمله، من أجل تعضيد نفوذه في المنطقة، والتحكم بأنساق التهدئة أو التصعيد مع الولايات المتحدة، حسب ما تقتضيه مصلحة الواقع الإيراني الجديد، كما شكّلت عملية اختيار حسين أمير عبد اللهيان، وزيراً للخارجية في عهد رئيسي، تحولاً مهماً بالنهج الإيراني، فهو الشخصية الأبرز من الجيل الثاني للثورة، دبلوماسي متمرِّس ومتأثر بسليماني، يحظى بثقة المرشد الأعلى والحرس الثوري، وله شبكة علاقات عامة قوية مع جميع وكلاء إيران في المنطقة، وبالتالي فإن المجيء به على رأس الخارجية الإيرانية في عهد رئيسي، كان من أجل استخدام هذه الخبرة والعلاقات، بالإطار الذي يدعم جهود الحرس الثوري في العراق وسوريا ولبنان واليمن أولاً، ويوازن فشل إسماعيل قاآني في ملء فراغ سليماني ثانياً، وإعادة ترتيب الأوراق الإيرانية المبعثرة في المنطقة ثالثاً، بالشكل الذي يعيد الفاعلية إلى الدور الإقليمي الإيراني. الحفاظ على الوضع الراهن مما لا شك فيه أنه يوجد العديد من الضرورات السياسية والاستراتيجية التى ستحيط بإيران بعد رئيسي، والأهم كيف ستتصرف إيران في مناطق النفوذ التقليدية، بدءاً من بغداد وإنتهاءً بصنعاء، إذ إن عبداللهيان كان يمتلك شبكة علاقات عامة قوية مع حلفاء إيران في المنطقة، ونجح إلى حد ما في ضبط سلوك "وكلاء إيران"، سواءً في سياق المواجهة مع القوات الأمريكية، أو في سياق الانخراط غير المباشر في حرب غزة، ومن ثم فإن التساؤل المهم الذي يُطرح هنا: هل سنشهد تغيّرات كبيرة في الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، خصوصاً مع مجيء وزير خارجية جديد في إيران بعد عبداللهيان؟ وهو "علي باقري كني". بدايةً يمكن القول إن كني يمثل أحد أوجه المدرسة المحافظة في إيران، ومعروف بمواقفه السياسية المتشددة، مدعوم من الحرس الثوري، ويحظى بثقة المرشد الأعلى، وينسب إليه الفضل في إدارة الدبلوماسية غير المباشرة لإحياء الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، إلا أنه في مقابل ذلك لا يمتلك دائرة العلاقات التي كان يمتلكها عبدالليهان في دول النفوذ نفسها، وهو ما سيفرض مزيداً من التحديات على دوره فيها. مما لا شك فيه أن الدور الإيراني في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، سيمر بمرحلة انتقالية خلال الفترة القليلة القادمة، حتى تتمكن إيران من استيعاب صدمة ما حدث، وكذلك منح الفرصة لوزير الخارجية الجديد لترتيب الأوراق الإيرانية إقليميّاً ودوليّاً، والأهم ستركز إيران في الفترة المقبلة على الإسراع في إنجاز الانتخابات الرئاسية بأي شكل، إذ إن خلو منصب الرئاسة لفترة طويلة سيشكل تحدياً كبيراً للمرشد الأعلى، الذي يواجه اليوم تحدي إيجاد الخليفة الموثوق بعد غياب رئيسي. إن نظرة بسيطة لطبيعة الدور الإيراني في المرحلة المقبلة، يشير بما لا يقبل الشك، إلى أن المهمة الرئيسية فيها ستكون لقوة القدس، وتحديداً قاآني، حتى يتمكن كني من النزول إلى الميدان، مع ضرورة التأكيد هنا، أن دور الخارجية الإيرانية يمثل حلقة ثانوية مقابل الدور المركزي للحرس الثوري، إلا أنه يظل مهماً من أجل فرض إطار مشروع دبلوماسي للدور الإيراني فيها. إن الاستمرار بنهج "دبلوماسية الميدان" التي كان يعتمدها عبداللهيان، والقائمة على تعزيز حضور وكلاء إيران، ودمج هذا الحضور في خدمة الدور الإيراني في الشرق الأوسط، قد يمثل نهجاً مرغوباً لدى القيادة الإيرانية الجديدة، ولكن من جهة أخرى هي تفتقد القدرات السياسية التي كان يمتلكها عبداللهيان في كيفية ضبط تحركاتها، وهو ما قد يجعل الدور الإيراني أمام تحديات كبيرة في المرحلة المقبلة. ملفات خارجية مهمة إن أبرز الملفات التي ستحاول إيران التعامل معها في الفترة المقبلة، هي ذاتها التي كانت محل اهتمام عبداللهيان، سواءً على مستوى تأمين وضع الحلفاء سياسياً وعسكرياً، أو على مستوى الفاعلية مع الحرب في غزة، وهي مسارات ستكون حاضرة بقوة على أجندة كني، ورغم أنه ينظر إلى الأوضاع في الشرق الأوسط بصورة أكثر تشدداً من عبداللهيان، فإن المركزية التي يتمتع بها خامنئي في سياسات إيران الخارجية، ستلعب دوراً في ضبط سلوك كني، وتهذيب العديد من خياراته السياسية، أو حتى محاولته الانقلاب على النهج السابق لعبد اللهيان. إن أهم تحدٍّ سينتظر إيران خلال الفترة المقبلة، يتمثل في كيفية الإبقاء على مسارات الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل منضبطة، كما كانت في فترة عبد اللهيان، وتحديداً في العراق وسوريا، إذ إن هناك خشية كبيرة داخل الأوساط السياسية الإيرانية من أن يؤدي تشدد كني، إلى إغراء العديد من وكلاء إيران في العراق وسوريا، في تجاوز الخطوط الحمراء الإيرانية في تشديد الهجمات على القوات الأمريكية في العراق أو سوريا، أو حتى في شن هجمات قد تدفع إسرائيل إلى الرد عليها. يمكن القول بأن المرحلة التالية لرئيسي لن تتغير كثيراً فيما يتعلق بالنهج الذي قد تسلكه القيادة الإيرانية الجديدة، بخاصة في وقت تشهد فيه المنطقة صراعات محتدمة، إذ إن طبيعة النظام السياسي في إيران والذي تعود فيه الكلمة الفصل إلى المرشد الأعلى، تجعل من الرئيس وطاقمه مجرد منفذين لسياسات الدولة، ومن ثم فإن من سيخلف رئيسي سيمضي على نهجه بالتأكيد، على الأقل بالحد المقبول من قبل المرشد الأعلى. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الخلفية السياسية للرئيس المقبل ستلعب دوراً مهماً في هذا السياق، فمع إعلان الحكومة الإيرانية عن فتح باب الترشيح للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 29 يونيو /حزيران المقبل، بدأت أسماء عديدة تفرض نفسها على الشارع الإيراني، ما بين إصلاحية ومحافظة ومتشددة، ومن ثم فإن خلفية الرئيس المقبل، ستساهم بشكل أو آخر في رسم ملامح الدور الإيراني في الشرق الأوسط، والأهم ستعكس رغبة خامنئي في تحديد وجه إيران المستقبلي في المنطقة، وذلك من خلال تفضيله لرئيس محافظ أو إصلاحي أو متشدد. كما يمثل ملف المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، بخصوص إحياء الصفقة النووية، والاستمرار بنهج التوافق مع عديد من دول المنطقة، أهمية في أجندة القيادة الإيرانية الجديدة، ورغم ما تقدَّم، فقد تمثل الحرب في غزة آخر الملفات وأهمها في سياق الدور الإيراني الحالي، وهي أهمية ستفرض نفسها في المرحلة المقبلة، فالحفاظ على إنتاج حل سياسي يُبقي حركة حماس فاعلة في غزة، وعدم توسع الصراع في المنطقة، سيُشكلان محور الدور الإيراني، لما لذلك من أهمية في استقرار وضع حلفائها في المنطقة، فما تخشاه إيران في الوقت الحاضر أن يجري استغلال حالة عدم الاستقرار فيها على خلفية مقتل رئيسي، في رسم مشهد إقليمي جديد لا يلبي طموحها. موقف الغرب والأهم الولايات المتحدة إن نظرة بسيطة إلى طبيعة البيانات التي أصدرتها وزارة الخارجية الأمريكية بعد وفاة رئيسي، تشير بصورة مباشرة إلى طبيعة الموقف الأمريكي من الأحداث في إيران، حيث جاء في أحدها: "بينما تختار إيران رئيساً جديداً، نؤكد من جديد دعمنا للشعب الإيراني ونضاله من أجل حقوق الإنسان والحريات الأساسية"، وهو موقف يتوافق مع رسائل واشنطن بشأن مواقفها السابقة من إيران، وتحديداً بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، ودعمها غير المباشر للاحتجاجات في إيران. مما لا شك فيه أن الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة، تطمح إلى أن تندفع إيران، وتحديداً خامنئي لإنتاج قيادة إيرانية جديدة قادرة على التفاهم مع الغرب، بعيداً عن نهج التشدد الذي كان يمثله رئيسي وعبداللهيان، ومن ثم فإن الرئيس الذي ستفرزه الانتخابات الرئاسية الإيرانية الشهر المقبل، هو، على ما يبدو، من سيحدد النهج الجديد الذي ستتعامل إيران من خلاله مع الولايات المتحدة، ما بين الاستمرار على نهج رئيسي، أو إنتاج نهج جديد. ورغم أن الحضور المستمر لخامنئي يمثل الضابط الرئيس في التوجه الإيراني المستقبلي حيال الدول الغربية والولايات المتحدة، فإن التاريخ السياسي الإيراني أظهر أن وصول رئيس إصلاحي عادة ما يخلق نوعاً من الصراع بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة المرشد حول السياسة الخارجية، ومثل هذا الصراع هو ما تعول عليه الولايات المتحدة، لأنها تعتبره بمثابة فرصة لفتح مسار جديد من العلاقات مع إيران، خصوصاً أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مقبلة على انتخابات رئاسية في نهاية العام الجاري، وترغب في حسم، أو على أقل تقدير احتواء الملف الإيراني قبل الدخول في سباق الانتخابات، من أجل أن لا تظهر بمظهر الإدارة العاجزة عن إنتاج حلول مع إيران بعد أربع سنوات من دخولها البيت الأبيض.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها