كتبت قبل ايام عموداً بعنوان "الدولار، ضريبة الاغنياء على الفقراء". أعدت اسباب ارتفاع الدولار لعاملين رئيسيين: وطني، لاعتمادنا على النفط والاستيراد واهتمامنا بالموازنة على حساب الاقتصاد والقطاعات الحقيقية. وعالمي، بسبب رفع "الفيدرالي" اسعار الفائدة. وقد وردت تعليقات واسئلة اهمها: 1- ان الكلام عن ارتفاع سعر الدولار بسبب رفع "الفيدرالي" غير صحيح، بدليل ثبات اسعار عملات دول الخليج؟ والجواب، ان ثبات اسعار عملات الخليج يعود لطبيعة انظمتها النقدية، اي "Pegged Currencies" (العملات المرتبطة). اي ارتباط العملة الوطنية بسعر صرف ثابت لعملة دولة اخرى، فتتحرك صعوداً وهبوطاً بحركتها. ويوجد من هذه الدول والاقتصاديات المرتبطة بالدولار حوالي (20) دولة واقتصادا وحوالي (30) بعملات اخرى. ولعل سائل يسأل لماذا لا نتبع هذا النظام؟ وجوابنا، ان العراق اتبع هذا النظام، بعد اصدار الدينار العراقي في (1932) وربطه بالجنيه البريطاني حتى (1959)، وخروج العراق من منطقة الاسترليني. اذ يعتبر كثيرون -ونحن منهم- بان مثل هذا الارتباط ينتقص السيادة، فلا كلمة لنا في ادارة العملة التي نرتبط بها. بل هذا هو حالنا الان مع "الفيدرالي" وهيمنة الدولار. وان من يدعو لهذا الخيار عليه ان يحسب الاضرار البعيدة وليس المنافع القصيرة فقط. فالدولار مثلاً انخفض بعد ان تخلى عن قاعدة الذهب في (1971) وليومنا هذا اكثر من (60%) من قيمته. فخسر امام المارك الالماني (65%)، وامام السويسري (74%)، و(76%) امام الين الياباني، وقس على ذلك. وخسر منذ (1933) حوالي (92%) من قدرته الشرائية داخلياً. فيقترح الاقتصادي القدير مظهر محمد صالح سلة عملات في احتياطياتنا، لتعوض العملات الصاعدة خسائر العملات الهابطة. ان من يتبنى هذا النظام يجب ان يمتلك احتياطات هائلة، وهو حال دول الخليج، او ان يحتضن الاقتصاد الام الاقتصاد التابع كلياً. لانه لن يكون بمقدوره الدفاع عن سعر الدولار ما لم يضحي بمبالغ عظيمة من احتياطاته المالية. وقبل تغيير 2003 كان هناك سعر صرف ثابت للدينار، لكنه انهار بسبب انهيار احتياطات البلاد. كما ان قوة العملة ليست بالضرورة هدفاً ثابتاً. فكثير من الدول تتبع سياسة "العملة التضخمية" و"التمويل بالعجز"، بل وتُخرج عملتها كلياً من سوق المضاربات. وهذه سياسات لا يمكن القول بايجابيتها او سلبيتها الا في اطار الاوضاع الواقعية التي تعيشها البلدان والاقتصاديات المختلفة. وعليه فان "العملات المرتبطة" و"سعر الصرف الثابت" وغيرهما، ليست كلها فوائد، بل قد تحمل الاضرار. الأهم هو الاقتصاد، الذي يجب ان يقود العملة، لا ان تقوده العملة. 2- طرح البعض، التهريب وغسيل الاموال والعقوبات على ايران كاسباب رئيسية لانخفاض الدينار؟ وجوابنا، ان هذا عامل قائم، لكنه يحتل مرتبة ادنى امام العوامل الاساسية المطروحة. اذ بلغت استيراداتنا من السلع والخدمات (79.4) مليار دولار في (2021)، حسب منظمة التجارة الدولية WTO، (وليس الاحصاءات الوطنية الناقصة)، بينما سجلت الواردات النفطية للعام نفسه (75.65 مليار دولار) وفق "سومو". فمعظم واردات النفط تذهب للاستيراد. واقتصادياً سيُحسب الاستيراد سواء جرى عبر المصارف او بوسائط اخرى، بفواتير اصولية ام لا. فان كان هناك من خلل (وهناك فعلاً خلل كبير) فيجب البحث عنه في هيكلية الاقتصاد، وضعف الانتاج الوطني اولاً. فالتهريب وخروج الاموال بغير الطرق الاصولية مخالفة قانونية، لكن خروجها -باية طريقة- حركة اقتصادية لا يمكن وضع سياسات صحيحة دون رصدها وفهمها. وذكرت ايضاً بان سبب الارتفاع هو "العامل السياسي"، بمعنى ان هذا الموضوع يُستغل لاغراض المضاربة والربح السريع لقوى نافذة، او لتهيج الراي العام لاغراض سياسية. اشرنا لمضاعفات خفض سعر صرف الدينار الى (1450) دينار/دولار، في نهاية 2020، واثاره في ارتفاع اسعار السلع والخدمات. اما التقلبات اليومية الحالية ليصل سعره السوقي (1600) دينار/دولار واكثر، فسببه الاكبر العوامل الوطنية والخارجية التي تكلمنا عنها، يضاف اليها عوامل متغيرة اقل تأثيراً في قيمته، كالسعي للربح السريع والمضاربة والصراع السياسي والتصريحات المتناقضة التي تزرع الخوف وتزعزع الثقة. وهنا لا نتكلم عن معاناة الفقراء او الفساد او التهريب، بل نتكلم عن مؤشرات اقتصادية يجب فهمها لوضع المعالجات المناسبة لها. فلو لم يكن لدى العراق احتياطات كبيرة يستطيع فيها الدفاع عن عملته، لرأينا ارتفاع اسعار الصرف اضعاف التقلبات الحالية، كما يحصل في الكثير من البلدان الاخرى. مؤكدين ان الجزء الاعظم من خروج العملة يتم تحت غطاء القوانين الهشة والتعليمات المتضاربة، والمعاملات التي يسهل شرعنتها (تزويرها وفسادها) واعطاءها الصفة القانونية، وان وجهتها الاساسية ليس الجمهورية الاسلامية المحاصرة، بل مصارف الغرب والشرق ودبي وابو ظبي، الخ.